جاري التحميل الآن

الذكاء الاصطناعي.. بين فرص العمل الضائعة والبديلة

الذكاء الاصطناعي.. بين فرص العمل الضائعة والبديلة

زاهر هاشم*

يشهد العالم منذ مطلع الألفية الثالثة ثورة صناعية جديدة، هي الثورة الصناعية الرابعة، وهي التسمية التي أطلقها المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس عام 2016 على المرحلة الحالية من سلسلة الثورات الصناعية التي شهدتها البشرية.

فقد مرت المجتمعات البشرية بثلاث ثورات صناعية سابقة، كانت الأولى في منتصف القرن الثامن عشر حين تم اختراع المحرك البخاري والذي شكل بداية عصر صناعي جديد، تحوّل فيه المجتمع من مجتمع زراعي ريفي إلى مجتمع صناعي يسكن المدن، ويستخدم الطاقة الميكانيكية والفحم الحجري وحلت الآلات البخارية محل اليد العاملة.

ثم جاءت الثورة الصناعية الثانية منتصف القرن التاسع عشر مع ظهور الكهرباء وأدت إلى زيادة انتاج المصانع، وتنامت معها الوظائف وسوق العمل بشكل كبير، وظهرت خلالها الكثير من الاكتشافات والاختراعات الكبرى.

ومع اختراع الحواسيب في منتصف القرن العشرين، وظهور وانتشار شبكة الانترنت في العقدين الأخيرين منه، بدأت الثورة الصناعية الثالثة التي تميزت بكونها ثورة رقمية، برزت خلالها الأتمتة الصناعية، والتطور التكنولوجي الكبير في الآلات والشبكات والاتصالات، ما أدى إلى تسريع عجلة الإنتاج، وزيادة فرص العمل والتعليم، وتحسين مستوى المعيشة.

أما الثورة الصناعية الرابعة التي نعيشها حالياً، فقد كانت امتداداً للإنجازات الهائلة التي تحققت في عهد ثورة تقنية المعلومات والاتصالات، وظهرت خلالها تقنيات رائدة وابتكارات خلاقة، مثل الطباعة ثلاثية الابعاد، وانترنت الأشياء، والروبوتات، والمركبات ذاتية القيادة، وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وغيرها من التقنيات التي نشهد تطورها يوما ًبعد يوم.

ومن بين إنجازات الثورة الصناعية الرابعة برز الذكاء الاصطناعي كأحد أكبر الإنجازات التي غيرت وتغيّر شكل العالم من حولنا بشكل جذري.

الذكاء الاصطناعي وهواجس البطالة

على الرغم من أن التقنيات التي رافقت كل ثورة من الثورات الصناعية الثلاث الأولى قضت على عدد من الوظائف والأعمال اليدوية أو الآلية، إلا أنها فتحت بالمقابل أبواباً جديدة لوظائف أخرى، وبات العاملون يتوجهون في كل مرة إلى وظائف في مجالات صناعية وخدمية جديدة استحدثتها هذه التقنيات.

وعلى الرغم من إيجابيات الذكاء الاصطناعي وقدرته على تحسين ظروف المعيشة، والظروف الصحية وتحقيق الرفاهية للمجتمعات، فلا تزال هناك الكثير من المخاوف من تفشي البطالة بين العمالة البشرية في حال استولت الروبوتات على مزيد من مهام البشر، خصوصاً أن عدداً من الشركات الكبرى بدأت فعلياً بالاستغناء عن الوظائف التي لا تحتاج إلى الخبرة، أو ذات المؤهلات المنخفضة.

فعلى سبيل المثال تستعين شركة أمازون العالمية، بالطائرات المسيرة والروبوتات الراجلة، لتوصيل الطرود البريدية في بعض مدن العالم، بدلاً من سعاة البريد وسائقي الشاحنات، كما تعتزم سلسلة محلات “وول مارت” الأمريكية تشغيل روبوتات نظافة في متاجرها خلال فترة وجيزة، كما خصصت سلسة متاجر الأغذية “جينت” نحو 500 روبوت للقيام بمهام روتينية مثل مراجعة المخاطر الناجمة عن وجود فضلات أو انسكاب المواد والإبلاغ عنها، ونذكر أيضاً إعلان شركة “فالنيت” مؤخراً إطلاق منصة خدمة عملاء عبر نظام ذكاء اصطناعي صوتي لاستقبال طلبات العملاء من سياراتهم.

وقد سلط الخبراء الضوء على نتائج الاستثمار في تقنيات الذكاء الاصطناعي وآثاره السلبية على سوق العمل في مختلف دول العالم، وهو ما أشار إليه “إيركلي بيريدز” رئيس مركز الذكاء الاصطناعي في معهد الأمم المتحدة لبحوث الجريمة، والذي نوه إلى مخاطر تتعلق بخسارة الكثير من الأشخاص لوظائفهم لحلول الروبوتات محلهم.

وبحسب دراسة قدمتها شركة “ماكينزي” الاستشارية العالمية فإن نصف العمالة الحالية يمكن استبدالها بالروبوتات والآلات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي، ما يوفر 16 تريليون دولار عبارة عن رواتب عالمية.

ووفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي 2016، فإن سبعة ملايين وظيفة سوف تختفي عام2020 وستظهر 2 مليون وظيفة جديدة متعلقة بالكمبيوتر والبرمجيات.

وتبين من خلال دراسة أخرى أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي عام 2015 في 34 دولة معظمها من الدول الغنية، أن هناك 14% من الوظائف الحالية معرضة لخطر كبير، و32% معرضة لخطر أقل، وخلصت الدراسة إلى أن نحو 210 ملايين وظيفة في 32 دولة، معرضة للخطر.

وظائف خطرة تناسب الروبوت

لعل أكثر الأسباب التي تدفع لاستخدام الروبوتات وتقنيات الذكاء الاصطناعي هي أسباب ذات طابع اقتصادي بالدرجة الأولى، كزيادة الإنتاج وزيادة ساعات العمل وتقليل الرواتب المدفوعة، وتخفيض نفقات العمالة ونفقات الضمان الصحي والاجتماعي، إلا أن هناك أسباباً إنسانية تجعل من المفيد نقل وظائف كثيرة من العمالة البشرية إلى العمالة الآلية، نظراً لظروفها الشاقة والتي تتطلب المخاطرة بالحياة أو العمل في ظروف غير صحية وغير إنسانية.

فعلى سبيل المثال يشكل اللحام الصناعي خطراً كبيراً على العاملين، نتيجة التعرض للحرارة الشديدة ومخاطر الإشعاع الضوئي والأبخرة السامة، كما تشكل مهناً أخرى مثل التخلص من النفايات النووية، ومكافحة الحرائق، وإصلاح أنابيب الصرف الصحي، أخطاراً كبيرة وظروفاً قاسية، ما يجعل هذه المهام أكثر ملائمة لعمالة غير بشرية.

وظائف جديدة مستحدثة

وبعيداً عن موجة التشاؤم التي رافقت ثورة الذكاء الاصطناعي والحديث عن تفشي البطالة وانهيار الاقتصاد العالمي، والأرقام التي تشير إلى ذلك، وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي سيستحوذ على أغلب الوظائف التي يعمل بها البشر حالياً، إلا أن بعض صناع القرار يرون أن سيطرة الذكاء الاصطناعي على هذه لوظائف سيقابله استحداث ملايين الوظائف الجديدة في مجال التقنيات والخدمات التخصصية الناشئة والتي يجب أن يؤديها البشر.

وحددت شركة ” كوجنيزانت” لتقنية المعلومات خمسين فئة وظيفية من المرجح أن تزدهر مستقبلاً، وسيكون العاملون في مجال الخوارزميات والأتمتة في أمان تام، إضافة إلى العاملين في الإدارات الصحية والخدمات القانونية والوظائف المالية والوظائف المتعلقة باللياقة البدنية، والتي تعتمد على الإبداع والفن، وتبادل العواطف، والخيال والتخمين.

ويؤكد ذلك “راي كورزويل” الذي يشغل منصب مدير الهندسة في جوجل، حيث يرى أن الذكاء الاصطناعي سيفيدنا في نهاية المطاف كما حصل مع التقنيات السابقة وسيدعمنا بدل أن يحل محلنا.

ويعزز كل من “بول دوجيرتي” و”جيم ويلسون” من شركة أكسنتشر للأبحاث والاستشارات الإدارية، وجهة النظر المتفائلة تجاه قدرة الذكاء الاصطناعي على تحسين فرص العمل واستحداث فرص جديدة، ويشمل ذلك مجالات تدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعي على محاكاة السلوك البشري، وتطوير معالجات اللغات الطبيعية وتطوير نظم البرمجة بهدف تقليل نسبة الأخطاء.

وبالإضافة إلى استحداث فرص ووظائف جديدة، فإن الذكاء الاصطناعي سيساعد البشر على أداء وظائفهم بشكل أكثر فعالية.

وفي هذا الصدد، يقول رفائيل رايف رئيس معهد “ماساتشوستس” للتكنولوجيا: “إن كل موجة تكنولوجية سابقة أنتجت وظائف أكثر مما دمرت، وحققت مكاسب مهمةً على صعيد المعيشة ومتوسط العمر المتوقع، وإنتاجية عالية ونمواً اقتصادياً كبيراً. أما اليوم فالكل قلق”.

أخيراً وبما أن الذكاء الاصطناعي سيغير عالمنا بشكل جذري لا محالة، فإن الاستعداد لهذا التغيير يتطلب تهيئة بيئات مواتية لاكتساب المهارات الرقمية من خلال التعليم الرسمي أو التدريب في مكان العمل.

من المؤكد أن الثورة الصناعية الرابعة ستغيُّر ملامح سوق العمل في المدى المنظور وبسرعة، لكن الاستعداد الجيد لهذا التغيير، سيحمي اليد العاملة، وسيعود بالفائدة الكبيرة على البشرية التي ستشهد تطورات كبرى في مجال الرعاية الصحية والتنمية وتأمين التعليم الجيد والحياة الكريمة.

منشور في العدد 221 من مجلة لغة العصرالصادرة عن مؤسسة الأهرام المصرية – مايو 2019

الذكاء الاصطناعي.. بين فرص العمل الضائعة والبديلة

Share this content:

إرسال التعليق